فصل: مفسدات الصّوم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


سنن الصّوم ومستحبّاته

35 - سنن الصّوم ومستحبّاته كثيرة، أهمّها‏:‏

أ - السّحور، وقد ورد فيه حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » تسحّروا فإنّ في السّحور بركةً «‏.‏

ب - تأخير السّحور، وتعجيل الفطر، وممّا ورد فيه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر «‏.‏

وحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -‏:‏ » تسحّرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قام إلى الصّلاة‏.‏ قلت‏:‏ كم كان بين الأذان والسّحور‏؟‏ قال‏:‏ قدر خمسين آيةً «‏.‏

ج – ويستحبّ أن يكون الإفطار على رطبات، فإن لم تكن فعلى تمرات، وفي هذا ورد حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلّي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء «‏.‏

وورد فيه حديث عن سلمان بن عامر الضّبّيّ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنّه بركة، فمن لم يجد فليفطر على ماء، فإنّه طهور «‏.‏

د - ويستحبّ أن يدعو عند الإفطار، فقد ورد عن عبد اللّه بن عمرو رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً‏:‏ » إنّ للصّائم دعوةً لا تردّ «‏.‏

وفي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال‏:‏ » ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء اللّه تعالى «‏.‏

وهناك فضائل من خصائص شهر رمضان كالتّراويح، والإكثار من الصّدقات، والاعتكاف، وغيرها تنظر في مصطلحاتها‏.‏

36 - ومن أهمّ ما ينبغي أن يترفّع عنه الصّائم ويحذره‏:‏ ما يحبط صومه من المعاصي الظّاهرة والباطنة، فيصون لسانه عن اللّغو والهذيان والكذب، والغيبة والنّميمة، والفحش والجفاء، والخصومة والمراء، ويكفّ جوارحه عن جميع الشّهوات والمحرّمات، ويشتغل بالعبادة، وذكر اللّه، وتلاوة القرآن وهذا كما يقول الغزاليّ‏:‏ هو سرّ الصّوم‏.‏

وفي الصّحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » قال اللّه تعالى‏:‏ كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، والصّيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل‏:‏ إنّي امرؤ صائم «، وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » الصّيام جنّة، ما لم يخرقها بكذب أو غيبة «‏.‏

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » من لم يدع قول الزّور، والعمل به، فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه «‏.‏

مفسدات الصّوم

37 - يفسد الصّوم - بوجه عامّ - كلّما انتفى شرط من شروطه، أو اختلّ أحد أركانه، كالرّدّة، وكطروء الحيض والنّفاس، وكلّ ما ينافيه من أكل وشرب ونحوهما، ودخول شيء من خارج البدن إلى جوف الصّائم‏.‏

38 - ويشترط في فساد الصّوم بما يدخل إلى الجوف ما يلي‏:‏

أ - أن يكون الدّاخل إلى الجوف، من المنافذ الواسعة - كما قيّده بذلك المالكيّة - والمفتوحة - كما قال الشّافعيّة - أي‏:‏ المخارق الطّبيعيّة الأصليّة في الجسم، والّتي تعتبر موصّلةً للمادّة من الخارج إلى الدّاخل، كالفم والأنف والأذن‏.‏

وقد استدلّ لذلك، بالاتّفاق على أنّ من اغتسل في ماء، فوجد برده في باطنه لا يفطر، ومن طلى بطنه بدهن لا يضرّ، لأنّ وصوله إلى الجوف بتشرّب‏.‏

ولم يشترط الحنابلة ذلك، بل اكتفوا بتحقّق وصوله إلى الحلق والجوف، والدّماغ جوف‏.‏

ب - أن يكون الدّاخل إلى الجوف ممّا يمكن الاحتراز عنه، كدخول المطر والثّلج بنفسه حلق الصّائم إذا لم يبتلعه بصنعه، فإن لم يمكن الاحتراز عنه - كالذّباب يطير إلى الحلق، وغبار الطّريق - لم يفطر إجماعاً‏.‏

وهذا استحسان، والقياس‏:‏ الفساد، لوصول المفطر إلى جوفه‏.‏

وجه الاستحسان، أنّه لا يستطاع الاحتراز عنه، فأشبه الدّخان‏.‏

والجوف هو‏:‏ الباطن، سواء أكان ممّا يحيل الغذاء والدّواء، أي يغيّرهما كالبطن والأمعاء، أم كان ممّا يحيل الدّواء فقط كباطن الرّأس أو الأذن، أم كان ممّا لا يحيل شيئاً كباطن الحلق‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ جعلوا الحلق كالجوف، في بطلان الصّوم بوصول الواصل إليه، وقال الإمام‏:‏ إذا جاوز الشّيء الحلقوم أفطر‏.‏

قال‏:‏ وعلى الوجهين جميعاً‏:‏ باطن الدّماغ والأمعاء والمثانة ممّا يفطر الوصول إليه‏.‏

ج - والجمهور على أنّه لا يشترط أن يكون الدّاخل إلى الجوف مغذّياً، فيفسد الصّوم بالدّاخل إلى الجوف، ممّا يغذّي أو لا يغذّي، كابتلاع التّراب ونحوه، وإن فرّق بينهما بعض المالكيّة، قال ابن رشد‏:‏ وتحصيل مذهب مالك، أنّه يجب الإمساك عمّا يصل إلى الحلق، من أيّ المنافذ وصل، مغذّياً كان أو غير مغذّ‏.‏

د - وشرط كون الصّائم قاصداً ذاكراً لصومه، أمّا لو كان ناسياً أنّه صائم، فلا يفسد صومه عند الجمهور، وذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه اللّه وسقاه«‏.‏

ويستوي في ذلك الفرض والنّفل لعموم الأدلّة‏.‏

وخالف مالك في صوم رمضان فذهب إلى أنّ من نسي في رمضان، فأكل أو شرب، عليه القضاء، أمّا لو نسي في غير رمضان، فأكل أو شرب، فإنّه يتمّ صومه، ولا قضاء عليه‏.‏ هـ – وشرط الحنفيّة والمالكيّة استقرار المادّة في الجوف، وعلّلوه بأنّ الحصاة – مثلاً – تشغل المعدة شغلاً ما وتنقص الجوع‏.‏

ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة استقرار المادّة في الجوف إذا كان باختياره‏.‏

وعلى قول الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ لو لم تستقرّ المادّة، بأن خرجت من الجوف لساعتها لا يفسد الصّوم، كما لو أصابته سهام فاخترقت بطنه ونفذت من ظهره، ولو بقي النّصل في جوفه فسد صومه، ولو كان ذلك بفعله يفسد صومه، قال الغزاليّ‏:‏ ولو كان بعض السّكّين خارجاً‏.‏

و - وشرط الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة، أن يكون الصّائم مختاراً فيما يتناوله، من طعام أو شراب أو دواء، فلو أوجر الماء، أو صبّ الدّواء في حلقه مكرهاً، لم يفسد صومه عندهم، لأنّه لم يفعل ولم يقصد‏.‏

ولو أكره على الإفطار، فأكل أو شرب، فللشّافعيّة قولان مشهوران في الفطر وعدمه‏.‏ أصحّهما‏:‏ عدم الفطر، وعلّلوا عدم الإفطار بأنّ الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط، لعدم وجود الاختيار‏.‏

ومذهب الحنابلة‏:‏ أنّه لا يفسد صومه قولاً واحداً، وهو كالإيجار، وذلك لحديث‏:‏ » إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه «‏.‏ فإنّه عامّ‏.‏

ومذهب الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ أنّ الإكراه على الإفطار يفسد الصّوم، ويستوجب القضاء، وذلك لأنّ المراد من حديث‏:‏ » إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان، وما استكرهوا عليه « رفع الحكم، لتصحيح الكلام اقتضاءً، والمقتضي لا عموم له، والإثم مراد إجماعاً، فلا تصحّ إرادة الحكم الآخر - وهو الدّنيويّ - بالفساد‏.‏

ما يفسد الصّوم، ويوجب القضاء

39 - وذلك يرجع إلى الإخلال بأركانه وشروطه، ويمكن حصره فيما يلي‏:‏

أ - تناول ما لا يؤكل في العادة‏.‏

ب - قضاء الوطر قاصراً‏.‏

ج - شئون المعالجة والمداواة‏.‏

د - التّقصير في حفظ الصّوم والجهل بأحكامه‏.‏

هـ- الإفطار بسبب العوارض‏.‏

أوّلاً‏:‏ تناول ما لا يؤكل عادةً

40 - تناول ما لا يؤكل عادةً كالتّراب والحصى، والدّقيق غير المخلوط - على الصّحيح - والحبوب النّيئة، كالقمح والشّعير والحمّص والعدس، والثّمار الفجّة الّتي لا تؤكل قبل النّضج، كالسّفرجل والجوز، وكذا تناول ملح كثير دفعةً واحدةً يوجب القضاء دون الكفّارة، أمّا إذا أكله على دفعات، بتناول دفعة قليلة، في كلّ مرّة، فيجب القضاء والكفّارة عند الحنفيّة‏.‏

أمّا في أكل نواة أو قطن أو ورق، أو ابتلاع حصاة، أو حديد أو ذهب أو فضّة، وكذا شرب ما لا يشرب من السّوائل كالبترول فالقضاء دون كفّارة لقصور الجناية بسبب الاستقذار والعيافة ومنافاة الطّبع، فانعدم معنى الفطر، وهو بإيصال ما فيه نفع البدن إلى الجوف، سواء أكان ممّا يتغذّى به أم يتداوى به‏.‏ ولأنّ هذه المذكورات ليست غذائيّةً، ولا في معنى الغذاء - كما يقول الطّحاويّ - ولتحقّق الإفطار في الصّورة، وهو الابتلاع‏.‏

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ الفطر ممّا دخل‏.‏

وقال الزّيلعيّ‏:‏ كلّ ما لا يتغذّى به، ولا يتداوى به عادةً، لا يوجب الكفّارة‏.‏

ثانياً‏:‏ قضاء الوطر أو الشّهوة على وجه القصور

وذلك في الصّور الآتية‏:‏

41 - أ - تعمّد إنزال المنيّ بلا جماع، وذلك كالاستمناء بالكفّ أو بالتّبطين والتّفخيذ، أو باللّمس والتّقبيل ونحوهما فإنّه يوجب القضاء دون الكفّارة عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - وعند المالكيّة يوجب القضاء والكفّارة معاً‏.‏

ب - الإنزال بوطء ميّتة أو بهيمة، أو صغيرة لا تشتهى‏:‏

42 - وهو يفسد الصّوم، لأنّ فيه قضاء إحدى الشّهوتين، وأنّه ينافي الصّوم، ولا يوجب الكفّارة، لتمكّن النّقصان في قضاء الشّهوة، فليس بجماع خلافاً للحنابلة، فإنّه لا فرق عندهم بين كون الموطوءة كبيرةً أو صغيرةً، ولا بين العمد والسّهو، ولا بين الجهل والخطأ، وفي كلّ ذلك القضاء والكفّارة، لإطلاق حديث الأعرابيّ‏.‏

والمالكيّة يوجبون في ذلك الكفّارة، لتعمّد إخراج المنيّ‏.‏

ج - المساحقة بين المرأتين إذا أنزلت‏:‏

43 - عمل المرأتين، كعمل الرّجال، جماع فيما دون الفرج، ولا قضاء على واحدة منهما، إلاّ إذا أنزلت، ولا كفّارة مع الإنزال، وهذا عند الحنفيّة وهو وجه عند الحنابلة، وعلّله الحنابلة بأنّه، لا نصّ في الكفّارة، ولا يصحّ قياسه على الجماع‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وأصحّ الوجهين أنّهما لا كفّارة عليهما، لأنّ ذلك ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الأصل‏.‏

د - الإنزال بالفكر والنّظر‏:‏

44 - إنزال المنيّ بالنّظر أو الفكر، فيه التّفصيل الآتي‏:‏

مذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلاّ قليلاً منهم أنّ الإنزال بالفكر - وإن طال - وبالنّظر بشهوة، ولو إلى فرج المرأة مراراً، لا يفسد الصّوم، وإن علم أنّه ينزل به، لأنّه إنزال من غير مباشرة، فأشبه الاحتلام‏.‏

قال القليوبيّ‏:‏ النّظر والفكر المحرّك للشّهوة، كالقبلة، فيحرم وإن لم يفطر به‏.‏

ومذهب المالكيّة أنّه إن أمنى بمجرّد الفكر أو النّظر، من غير استدامة لهما، يفسد صومه ويجب القضاء دون الكفّارة‏.‏ وإن استدامهما حتّى أنزل فإن كانت عادته الإنزال بهما عند الاستدامة، فالكفّارة قطعاً، وإن كانت عادته عدم الإنزال بهما عند الاستدامة، فخالف عادته وأمنى، فقولان في لزوم الكفّارة، واختار اللّخميّ عدم اللّزوم‏.‏

ولو أمنى في أداء رمضان بتعمّد نظرة واحدة يفسد صومه ويجب القضاء، وفي وجوب الكفّارة وعدمه تأويلان، محلّهما إذا كانت عادته الإنزال بمجرّد النّظر، وإلاّ فلا كفّارة اتّفاقاً‏.‏

وقال الأذرعيّ من الشّافعيّة، وتبعه شيخ القليوبيّ، والرّمليّ‏:‏ يفطر إذا علم الإنزال بالفكر والنّظر، وإن لم يكرّره‏.‏

ومذهب الحنابلة، التّفرقة بين النّظر وبين الفكر، ففي النّظر، إذا أمنى يفسد الصّوم، لأنّه أنزل بفعل يتلذّذ به، ويمكن التّحرّز منه، فأفسد الصّوم، كالإنزال باللّمس، والفكر لا يمكن التّحرّز منه، بخلاف النّظر‏.‏

ولو أمذى بتكرار النّظر، فظاهر كلام أحمد لا يفطر به، لأنّه لا نصّ في الفطر به، ولا يمكن قياسه على إنزال المنيّ، لمخالفته إيّاه في الأحكام، فيبقى على الأصل‏.‏

وإذا لم يكرّر النّظر لا يفطر، سواء أمنى أو أمذى، وهو المذهب، لعدم إمكان التّحرّز، ونصّ أحمد‏:‏ يفطر بالمنيّ لا بالمذي‏.‏

أمّا الفكر، فإنّ الإنزال به لا يفسد الصّوم‏.‏ واختار ابن عقيل‏:‏ الإفساد به، لأنّ الفكر يدخل تحت الاختيار، لكن جمهورهم استدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ » إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا وسوست أو حدّثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلّم «‏.‏

ولأنّه لا نصّ في الفطر به ولا إجماع، ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النّظر، لأنّه دونهما في استدعاء الشّهوة، وإفضائه إلى الإنزال‏.‏

ثالثاً‏:‏ المعالجات ونحوها، وهي أنواع أهمّها

أ - الاستعاط‏:‏

45 - الاستعاط‏:‏ افتعال من السّعوط، مثال رسول‏:‏ دواء يصبّ في الأنف، والاستعاط والإسعاط عند الفقهاء‏:‏ إيصال الشّيء إلى الدّماغ من الأنف‏.‏

وإنّما يفسد الاستعاط الصّوم، بشرط أن يصل الدّواء إلى الدّماغ، والأنف منفذ إلى الجوف، فلو لم يصل إلى الدّماغ لم يضرّ، بأن لم يجاوز الخيشوم، فلو وضع دواءً في أنفه ليلاً، وهبط نهاراً، فلا شيء عليه‏.‏

ولو وضعه في النّهار، ووصل إلى دماغه أفطر، لأنّه واصل إلى جوف الصّائم باختياره فيفطّره كالواصل إلى الحلق، والدّماغ جوف - كما قرّروا - والواصل إليه يغذّيه، فيفطّره، كجوف البدن‏.‏

والواجب فيه القضاء لا الكفّارة، هذا هو الأصحّ، لأنّ الكفّارة موجب الإفطار صورةً ومعنىً، والصّورة هي الابتلاع، وهي منعدمة، والنّفع المجرّد عنها يوجب القضاء فقط‏.‏ وهذا الحكم لا يخصّ صبّ الدّواء، بل لو استنشق الماء، فوصل إلى دماغه أفطر عند الحنفيّة‏.‏

ب - استعمال البخور‏:‏

46 - ويكون بإيصال الدّخان إلى الحلق، فيفطر، أمّا شمّ رائحة البخور ونحوه بلا وصول دخانه إلى الحلق فلا يفطر ولو جاءته الرّائحة واستنشقها، لأنّ الرّائحة لا جسم لها‏.‏

فمن أدخل بصنعه دخاناً حلقه، بأيّة صورة كان الإدخال، فسد صومه، سواء أكان دخان عنبر أم عود أم غيرهما، حتّى من تبخّر بعود، فآواه إلى نفسه، واشتمّ دخانه، ذاكراً لصومه، أفطر، لإمكان التّحرّز من إدخال المفطر جوفه ودماغه‏.‏

قال الشرنبلالي‏:‏ هذا ممّا يغفل عنه كثير من النّاس، فلينبّه له، ولا يتوهّم أنّه كشمّ الورد والمسك، لوضوح الفرق بين هواء تطيّب بريح المسك وشبهه، وبين جوهر دخان وصل إلى جوفه بفعله

ج - بخار القدر‏:‏

47 - بخار القدر، متى وصل للحلق باستنشاق أوجب القضاء، لأنّ دخان البخور وبخار القدر كلّ منهما جسم يتكيّف به الدّماغ، ويتقوّى به، أي تحصل له قوّة كالّتي تحصل من الأكل، أمّا لو وصل واحد منهما للحلق بغير اختياره فلا قضاء عليه‏.‏

هذا بخلاف دخان الحطب، فإنّه لا قضاء في وصوله للحلق، ولو تعمّد استنشاقه، لأنّه لا يحصل للدّماغ به قوّة كالّتي تحصل له من الأكل‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو فتح فاه عمداً حتّى دخل الغبار في جوفه، لم يفطر على الأصحّ‏.‏ ومذهب الحنابلة الإفطار بابتلاع غربلة الدّقيق وغبار الطّريق، إن تعمّده‏.‏

د - التّدخين‏:‏

48 - اتّفق الفقهاء على أنّ شرب الدّخان المعروف أثناء الصّوم يفسد الصّيام، لأنّه من المفطرات‏.‏

وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏تبغ، الموسوعة الفقهيّة 10 فقرة 30‏)‏‏.‏

هـ – التّقطير في الأذن‏:‏

49 – ذهب جمهور الفقهاء، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة إلى فساد الصّوم بتقطير الدّواء أو الدّهن أو الماء في الأذن‏.‏

فقال المالكيّة‏:‏ يجب الإمساك عمّا يصل إلى الحلق، ممّا ينماع أو لا ينماع‏.‏

والمذهب‏:‏ أنّ الواصل إلى الحلق مفطّر ولو لم يجاوزه، إن وصل إليه، ولو من أنف أو أذن أو عين نهاراً‏.‏

وتوجيهه عندهم‏:‏ أنّه واصل من أحد المنافذ الواسعة في البدن، وهي‏:‏ الفم والأنف والأذن، وأنّ كلّ ما وصل إلى المعدة من منفذ عال، موجب للقضاء، سواء أكان ذلك المنفذ واسعاً أم ضيّقاً‏.‏ وأنّه لا تفرقة عندهم، بين المائع وبين غيره في الواصل إلى المعدة من الحلق‏.‏ وقال النّوويّ‏:‏ لو صبّ الماء أو غيره في أذنيه، فوصل دماغه أفطر على الأصحّ عندنا، ولم ير الغزاليّ الإفطار بالتّقطير في الأذنين‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ إذا قطّر في أذنه فوصل إلى دماغه فسد صومه، لأنّ الدّماغ أحد الجوفين، فالواصل إليه يغذّيه، فأفسد الصّوم‏.‏

والحنفيّة قالوا‏:‏ بفساد الصّوم بتقطير الدّواء والدّهن في الأذن، لأنّ فيه صلاحاً لجزء من البدن، فوجد إفساد الصّوم معنىً‏.‏

واختلف الحنفيّة في تقطير الماء في الأذن‏:‏ فاختار المرغينانيّ في الهداية - وهو الّذي صحّحه غيره - عدم الإفطار به مطلقاً، دخل بنفسه أو أدخله‏.‏

وفرّق قاضي خان، بين الإدخال قصداً فأفسد به الصّوم، وبين الدّخول فلم يفسده به، وهذا الّذي صحّحوه، لأنّ الماء يضرّ الدّماغ، فانعدم الإفساد صورةً ومعنىً‏.‏

فالاتّفاق عند الحنفيّة على الفطر بصبّ الدّهن، وعلى عدمه بدخول الماء، والاختلاف في التّصحيح في إدخاله‏.‏

و - مداواة الآمّة والجائفة والجراح‏:‏

50 - الآمّة‏:‏ جراحة في الرّأس، والجائفة‏:‏ جراحة في البطن‏.‏

والمراد بهذا - كما يقول الكاسانيّ - ما يصل إلى الجوف من غير المخارق الأصليّة‏.‏

فإذا داوى الصّائم الآمّة أو الجراح، فمذهب الجمهور - بوجه عامّ - فساد الصّوم، إذا وصل الدّواء إلى الجوف‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ لو داوى جرحه فوصل الدّواء إلى جوفه أو دماغه أفطر عندنا سواء أكان الدّواء رطباً أم يابساً‏.‏

وعلّله الحنابلة بأنّه أوصل إلى جوفه شيئاً باختياره، فأشبه ما لو أكل‏.‏

قال المرداويّ‏:‏ وهذا هو المذهب، وعليه الأصحاب‏.‏

وعلّله الحنفيّة - مع نصّهم على عدم التّفرقة بين الدّواء الرّطب وبين الدّواء اليابس - بأنّ بين جوف الرّأس وجوف المعدة منفذاً أصليّاً، فمتى وصل إلى جوف الرّأس، يصل إلى جوف البطن‏.‏

أمّا إذا شكّ في وصول الدّواء إلى الجوف، فعند الحنفيّة بعض التّفصيل والخلاف‏:‏ فإن كان الدّواء رطباً، فعند أبي حنيفة الظّاهر هو الوصول، لوجود المنفذ إلى الجوف، وهو السّبب، فيبنى الحكم على الظّاهر، وهو الوصول عادةً، وقال الصّاحبان‏:‏ لا يفطر، لعدم العلم به، فلا يفطر بالشّكّ، فهما يعتبران المخارق الأصليّة، لأنّ الوصول إلى الجوف من المخارق الأصليّة متيقّن به، ومن غيرها مشكوك به، فلا نحكم بالفساد مع الشّكّ‏.‏

وأمّا إذا كان الدّواء يابساً، فلا فطر اتّفاقاً، لأنّه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدّماغ‏.‏

لكن قال البابرتيّ‏:‏ وأكثر مشايخنا على أنّ العبرة بالوصول، حتّى إذا علم أنّ الدّواء اليابس وصل إلى جوفه، فسد صومه، وإن علم أنّ الرّطب لم يصل إلى جوفه، لم يفسد صومه عنده، إلاّ أنّه ذكر الرّطب واليابس بناءً على العادة‏.‏

وإذا لم يعلم يقيناً فسد عند أبي حنيفة، نظراً إلى العادة، لا عندهما‏.‏

ومذهب المالكيّة عدم الإفطار بمداواة الجراح، وهو اختيار الشّيح تقيّ الدّين‏.‏

قال المرداويّ‏:‏ واختار الشّيخ تقيّ الدّين عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة‏.‏

قال ابن جزيّ‏:‏ أمّا دواء الجرح بما يصل إلى الجوف، فلا يفطر‏.‏

وقال الدّردير، معلّلاً عدم الإفطار بوضع الدّهن على الجائفة، والجرح الكائن في البطن الواصل للجوف‏:‏ لأنّه لا يصل لمحلّ الطّعام والشّراب، وإلاّ لمات من ساعته‏.‏

ز - الاحتقان‏:‏

51 - الاحتقان‏:‏ صبّ الدّواء أو إدخال نحوه في الدّبر‏.‏

وقد يكون بمائع أو بغيره‏:‏ فالاحتقان بالمائع من الماء - وهو الغالب - أو غير الماء، يفسد الصّوم ويوجب القضاء، فيما ذهب إليه الجمهور، وهو مشهور مذهب المالكيّة، ومنصوص خليل، وهو معلّل بأنّه يصل به الماء إلى الجوف من منفذ مفتوح، وبأنّ غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، وبأنّه أبلغ وأولى بوجوب القضاء من الاستعاط استدراكاً للفريضة الفاسدة‏.‏

ولا تجب الكفّارة، لعدم استكمال الجناية على الصّوم صورةً ومعنىً، كما هو سبب الكفّارة، بل هو لوجود معنى الفطر، وهو وصول ما فيه صلاح البدن إلى الجوف، دون صورته، وهو الوصول من الفم دون ما سواه‏.‏

واستدلّ المرغينانيّ وغيره للإفطار بالاحتقان وغيره، كالاستعاط والإفطار، بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ إنّما الإفطار ممّا دخل، وليس ممّا خرج‏.‏

وقول ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ الفطر ممّا دخل، وليس ممّا يخرج‏.‏

أمّا الاحتقان بالجامد، ففيه بعض الخلاف‏:‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ما يدخل إلى الجوف من الدّبر بالحقنة يفطر، لأنّه واصل إلى الجوف باختياره، فأشبه الأكل‏.‏

كذلك دخول طرف أصبع في المخرج حال الاستنجاء يفطر، قال النّوويّ‏:‏ لو أدخل الرّجل أصبعه أو غيرها دبره، وبقي البعض خارجاً، بطل الصّوم، باتّفاق أصحابنا‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ تغييب القطن ونحوه من الجوامد الجافّة، يفسد الصّوم، وعدم التّغييب لا يفسده، كما لو بقي طرفه خارجاً، لأنّ عدم تمام الدّخول كعدم دخول شيء بالمرّة، كإدخال الأصبع غير المبلولة، أمّا المبلولة بالماء والدّهن فيفسده‏.‏

وخصّ المالكيّة الإفطار وإبطال الصّوم، بالحقنة المائعة نصّاً‏.‏

وقالوا‏:‏ احترز ‏"‏ خليل ‏"‏ بالمائع عن الحقنة بالجامد، فلا قضاء فيها، ولا في فتائل عليها دهن لخفّتها‏.‏

وفي المدوّنة، قال ابن القاسم‏:‏ سئل مالك عن الفتائل تجعل للحقنة‏؟‏ قال مالك‏:‏ أرى ذلك خفيفاً، ولا أرى عليه فيه شيئاً، قال مالك‏:‏ وإن احتقن بشيء يصل إلى جوفه، فأرى عليه القضاء، قال ابن القاسم‏:‏ ولا كفّارة عليه‏.‏

ويبدو مع ذلك تلخيصاً، أنّ للمالكيّة في الحقنة أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ وهو المشهور المنصوص عليه في مختصر خليل‏:‏ الإفطار بالحقنة المائعة‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ الحقنة تفطر مطلقاً‏.‏

الثّالث‏:‏ أنّها لا تفطر، واستحسنه اللّخميّ، لأنّ ذلك لا يصل إلى المعدة، ولا موضع يتصرّف منه ما يغذّي الجسم بحال‏.‏

الرّابع‏:‏ أنّ استعمال الحقنة مكروه‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وكان من مضى من السّلف وأهل العلم يكرهون التّعالج بالحقن إلاّ من ضرورة غالبة، لا توجد عن التّعالج بها مندوحة، فلهذا استحبّ قضاء الصّوم باستعمالها‏.‏

ح - الحقنة المتّخذة في مسالك البول‏:‏

ويعبّر عن هذا الشّافعيّة بالتّقطير، ولا يسمّونه احتقاناً وفيه هذا التّفصيل‏:‏

الأوّل‏:‏ التّقطير في الإحليل، أي الذّكر‏:‏

52 - في التّقطير أقوال‏:‏ فذهب أبو حنيفة ومحمّد ومالك وأحمد، وهو وجه عند الشّافعيّة، إلى أنّه لا يفطر، سواء أوصل إلى المثانة أم لم يصل، لأنّه ليس بين باطن الذّكر وبين الجوف منفذ، وإنّما يمرّ البول رشحاً، فالّذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف، فلا يفطر، كالّذي يتركه في فيه ولا يبتلعه، وقال الموّاق‏:‏ هو أخفّ من الحقنة‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ لو قطّر فيه، أو غيّب فيه شيئاً فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه‏.‏ وللشّافعيّة - مع ذلك - في المسألة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ إذا قطّر فيه شيئاً لم يصل إلى المثانة لم يفطر، وهذا أصحّها، لأنّه - كما قال المحلّيّ - في جوف غير محيل‏.‏

الثّاني‏:‏ لا يفطر‏.‏

الثّالث‏:‏ إن جاوز الحشفة أفطر، وإلاّ لا‏.‏

وذهب أبو يوسف إلى أنّه يفطر إذا وصل إلى المثانة، أمّا ما دام في قصبة الذّكر فلا يفسد‏.‏ الثّاني‏:‏ التّقطير في فرج المرأة‏:‏

53 - الأصحّ عند الحنفيّة، والمنصوص في مذهب المالكيّة، والّذي يؤخذ من مذهب الشّافعيّة والحنابلة - الّذين نصّوا على الإحليل فقط - هو فساد الصّوم به، وعلّله الحنفيّة بأنّه شبيه بالحقنة‏.‏

ووجهه عند المالكيّة، استجماع شرطين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه من المنفذ السّافل الواسع، والآخر‏:‏ الاحتقان بالمائع‏.‏

وقد نصّ الدّردير على الإفطار به، ونصّ الدّسوقيّ على وجوب القضاء على المشهور، ومقابله ما لابن حبيب من استحباب القضاء، بسبب الحقنة من المائع الواصلة إلى المعدة، من الدّبر أو فرج المرأة، كما نصّ الدّردير على أنّ الاحتقان بالجامد لا قضاء فيه، ولا في الفتائل الّتي عليها دهن‏.‏

رابعاً‏:‏ التّقصير في حفظ الصّوم والجهل به

الأوّل‏:‏ التّقصير

54 - أ - من صور التّقصير ما لو تسحّر أو جامع، ظانّاً عدم طلوع الفجر، والحال أنّ الفجر طالع، فإنّه يفطر ويجب عليه القضاء دون الكفّارة، وهذا مذهب الحنفيّة، ومشهور مذهب المالكيّة، والصّحيح من مذهب الشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة، وذلك للشّبهة، لأنّ الأصل بقاء اللّيل، والجناية قاصرة، وهي جناية عدم التّثبّت، لا جناية الإفطار، لأنّه لم يقصده، ولهذا صرّحوا بعدم الإثم عليه‏.‏

واختار الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة - أنّه لا قضاء عليه‏.‏

وإذا لم يتبيّن له شيء، لا يجب عليه القضاء في ظاهر الرّواية - عند الحنفيّة - وقيل‏:‏ يقضي احتياطاً وكذلك الحكم إذا أفطر بظنّ الغروب، والحال أنّ الشّمس لم تغرب، عليه القضاء ولا كفّارة عليه، لأنّ الأصل بقاء النّهار، وابن نجيم فرّع هذين الحكمين على قاعدة‏:‏ اليقين لا يزول بالشّكّ‏.‏

قال ابن جزيّ‏:‏ من شكّ في طلوع الفجر، حرّم عليه الأكل، وقيل‏:‏ يكره‏.‏

فإن أكل فعليه القضاء وجوباً - على المشهور - وقيل‏:‏ استحباباً، وإن شكّ في الغروب، لم يأكل اتّفاقاً، فإن أكل فعليه القضاء والكفّارة، وقيل‏:‏ القضاء فقط، وقال الدّسوقيّ‏:‏ المشهور عدمها‏.‏

ومن المالكيّة من خصّ القضاء بصيام الفرض في الشّكّ في الفجر، دون صيام النّفل، ومنهم من سوّى بينهما‏.‏

وقيل عند الشّافعيّة‏:‏ لا يفطر في صورتي الشّكّ في الغروب والفجر، وقيل‏:‏ يفطر في الأولى، دون الثّانية‏.‏

ومن ظنّ أو اشتبه في الفطر، كمن أكل ناسياً فظنّ أنّه أفطر، فأكل عامداً، فإنّه لا تجب عليه الكفّارة، لقيام الشّبهة الشّرعيّة‏.‏

والقضاء هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة وهو الأصحّ‏.‏

أمّا لو فعل ما لا يظنّ به الفطر، كالفصد والحجامة والاكتحال واللّمس والتّقبيل بشهوة ونحو ذلك، فظنّ أنّه أفطر بذلك، فأكل عمداً، فإنّه يقضي في تلك الصّور ويكفّر لأنّه ظنّ في غير محلّه‏.‏

فلو كان ظنّه في محلّه فلا كفّارة، كما لو أفتاه مفت - يعتمد على قوله ويؤخذ بفتواه في البلد - بالإفطار في الحجامة فأكل عامداً، بعدما احتجم لا يكفّر‏.‏

والمالكيّة قسّموا الظّنّ في الفطر إلى قسمين‏:‏

أ - تأويل قريب، وهو الّذي يستند فيه المفطر إلى أمر موجود، يعذر به شرعاً، فلا كفّارة عليه، كما في هذه الصّور‏:‏

لو أفطر ناسياً، فظنّ لفساد صومه إباحة الفطر، فأفطر ثانياً عامداً، فلا كفّارة عليه‏.‏

أو لزمه الغسل ليلاً لجنابة أو حيض، ولم يغتسل إلاّ بعد الفجر، فظنّ الإباحة، فأفطر عمداً‏.‏

أو تسحّر قرب الفجر، فظنّ بطلان صومه، فأفطر‏.‏

أو قدم المسافر ليلاً، فظنّ أنّه لا يلزمه صوم صبيحة قدومه، فأفطر مستنداً إلى هذا التّأويل، لا تلزمه الكفّارة‏.‏

أو سافر دون مسافة القصر، فظنّ إباحة الفطر فبيّت الفطر، فلا كفّارة عليه‏.‏

أو رأى هلال شوّال نهاراً، يوم ثلاثين من رمضان، فاعتقد أنّه يوم عيد، فأفطر‏.‏

فهؤلاء إذا ظنّوا إباحة الفطر فأفطروا، فعليهم القضاء ولا كفّارة عليهم، وإن علموا الحرمة، أو شكّوا فيها فعليهم الكفّارة‏.‏

ب - تأويل بعيد، وهو المستند فيه إلى أمر معدوم، أو موجود لكنّه لم يعذر به شرعاً، فلا ينفعه، وعرّفه الأبيّ بأنّه‏:‏ ما لم يستند لموجود غالباً، مثال ذلك‏.‏

من رأى هلال رمضان، فشهد عند حاكم، فردّ ولم يقبل لمانع، فظنّ إباحة الفطر، فأفطر، فعليه الكفّارة لبعد تأويله‏.‏

وقال أشهب‏:‏ لا كفّارة عليه لقرب تأويله لاستناده لموجود، وهو ردّ الحاكم شهادته‏.‏ والتّحقيق‏:‏ أنّه استند لمعدوم، وهو أنّ اليوم ليس من رمضان، مع أنّه منه برؤية عينه‏.‏ أو بيّت الفطر وأصبح مفطراً، في يوم لحمّى تأتيه فيه عادةً، ثمّ حمّ في ذلك اليوم، وأولى إن لم يحمّ‏.‏

أو بيّتت الفطر امرأة لحيض اعتادته في يومها، ثمّ حصل الحيض بعد فطرها، وأولى إن لم يحصل‏.‏

أو أفطر لحجّامة فعلها بغيره، أو فعلت به، فظنّ الإباحة، فإنّه يكفّر‏.‏

لكن قال الدّردير‏:‏ المعتمد في هذا عدم الكفّارة، لأنّه من القريب، لاستناده لموجود، وهو قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ » أفطر الحاجم والمحجوم «‏.‏

أو اغتاب شخصاً في نهار رمضان، فظنّ إباحة الفطر فأفطر، فعليه الكفّارة‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّ من جامع عامداً، بعد الأكل ناسياً، وظنّ أنّه أفطر به، لا كفّارة عليه، وإن كان الأصحّ بطلان صومه بالجماع، لأنّه جامع وهو يعتقد أنّه غير صائم، فلم يأثم به، لذلك قيل‏:‏ لا يبطل صومه، وبطلانه مقيس على من ظنّ اللّيل وقت الجماع، فبان خلافه‏.‏

وعند القاضي أبي الطّيّب، أنّه يحتمل أن تجب به الكفّارة، لأنّ هذا الظّنّ لا يبيح الوطء‏.‏ وأمّا لو قال‏:‏ علمت تحريمه، وجهلت وجوب الكفّارة، لزمته الكفّارة بلا خلاف‏.‏

ونصّ الحنابلة على أنّه لو جامع في يوم رأى الهلال في ليلته، وردّت شهادته لفسقه أو غيره، فعليه القضاء والكفّارة، لأنّه أفطر يوماً من رمضان بجماع، فلزمته كما لو قبلت شهادته‏.‏

وإذا لم يعلم برؤية الهلال إلاّ بعد طلوع الفجر، أو نسي النّيّة، أو أكل عامداً، ثمّ جامع تجب عليه الكفّارة، لهتكه حرمة الزّمن به، ولأنّها تجب على المستديم للوطء، ولا صوم هناك، فكذا هنا‏.‏

الثّاني‏:‏ الجهل

54 - ب - الجهل‏:‏ عدم العلم بما من شأنه أن يعلم‏.‏

فالجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة، وهو مشهور مذهب المالكيّة، على إعذار حديث العهد بالإسلام، إذا جهل الصّوم في رمضان‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ يعذر من أسلم بدار الحرب فلم يصم، ولم يصلّ، ولم يزكّ بجهله بالشّرائع، مدّة جهله، لأنّ الخطاب إنّما يلزم بالعلم به أو بدليله، ولم يوجد، إذ لا دليل عنده على فرض الصّلاة والصّوم‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو جهل تحريم الطّعام أو الوطء، بأن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيداً عن العلماء، لم يفطر، كما لو غلب عليه القيء‏.‏

والمعتمد عند المالكيّة‏:‏ أنّ الجاهل بأحكام الصّيام لا كفّارة عليه، وليس هو كالعامد‏.‏

وقسّم الدّسوقيّ الجاهل إلى ثلاثة‏:‏

فجاهل حرمة الوطء، وجاهل رمضان، لا كفّارة عليهما، وجاهل وجوب الكفّارة - مع علمه بحرمة الفعل - تلزمه الكفّارة‏.‏

وأطلق الحنابلة وجوب الكفّارة، كما قرّر بعض من المالكيّة، وصرّحوا بالتّسوية بين العامد والجاهل والمكره والسّاهي والمخطئ‏.‏

خامساً‏:‏ عوارض الإفطار

55 - المراد بالعوارض‏:‏ ما يبيح عدم الصّوم‏.‏

وهي‏:‏ المرض، والسّفر، والحمل، والرّضاع، والهرم، وإرهاق الجوع والعطش، والإكراه‏.‏

أوّلاً‏:‏ المرض

56 - المرض هو‏:‏ كلّ ما خرج به الإنسان عن حدّ الصّحّة من علّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة‏.‏

والأصل فيه قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ » لمّا نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ كان من أراد أن يفطر، يفطر ويفتدي، حتّى أنزلت الآية الّتي بعدها يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ فنسختها «‏.‏

فالمريض الّذي يخاف زيادة مرضه بالصّوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو، له أن يفطر، بل يسنّ فطره، ويكره إتمامه، لأنّه قد يفضي إلى الهلاك، فيجب الاحتراز عنه‏.‏

ثمّ إنّ شدّة المرض تجيز الفطر للمريض‏.‏

أمّا الصّحيح إذا خاف الشّدّة أو التّعب، فإنّه لا يجوز له الفطر، إذا حصل له بالصّوم مجرّد شدّة تعب، هذا هو المشهور عند المالكيّة، وإن قيل بجواز فطره‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إذا خاف الصّحيح المرض بغلبة الظّنّ فله الفطر، فإن خافه بمجرّد الوهم، فليس له الفطر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إذا خاف حصول أصل المرض بصومه، فإنّه لا يجوز له الفطر - على المشهور - إذ لعلّه لا ينزل به المرض إذا صام‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز له الفطر‏.‏

فإن خاف كلّ من المريض والصّحيح الهلاك على نفسه بصومه، وجب الفطر‏.‏

وكذا لو خاف أذىً شديداً، كتعطيل منفعة، من سمع أو بصر أو غيرهما، لأنّ حفظ النّفس والمنافع واجب، وهذا بخلاف الجهد الشّديد، فإنّه يبيح الفطر للمريض، قيل‏:‏ والصّحيح أيضاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّ المريض - وإن تعدّى بفعل ما أمرضه - يباح له ترك الصّوم، إذا وجد به ضرراً شديداً، لكنّهم شرطوا لجواز فطره نيّة التّرخّص - كما قال الرّمليّ واعتمده - وفرّقوا بين المرض المطبق، وبين المرض المتقطّع‏:‏ فإن كان المرض مطبقاً، فله ترك النّيّة في اللّيل‏.‏

وإن كان يحمّ وينقطع، نظر‏:‏ فإن كان محموماً وقت الشّروع في الصّوم، فله ترك النّيّة، وإلاّ فعليه أن ينوي من اللّيل، فإن احتاج إلى الإفطار أفطر‏.‏

ومثل ذلك الحصّاد والبنّاء والحارس - ولو متبرّعاً - فتجب عليهم النّيّة ليلاً، ثمّ إن لحقتهم مشقّة أفطروا‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصّوم، بل قال أصحابنا‏:‏ شرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصّوم مشقّة يشقّ احتمالها، وأمّا المرض اليسير الّذي لا يلحق به مشقّة ظاهره فلم يجز له الفطر، بلا خلاف عندنا، خلافاً لأهل الظّاهر‏.‏

وخوف الضّرر هو المعتبر عند الحنابلة، أمّا خوف التّلف بسبب الصّوم فإنّه يجعل الصّوم مكروهاً، وجزم جماعة بحرمته، ولا خلاف في الإجزاء، لصدوره من أهله في محلّه، كما لو أتمّ المسافر‏.‏

قالوا‏:‏ ولو تحمّل المريض الضّرر، وصام معه، فقد فعل مكروهاً، لما يتضمّنه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيفاً من اللّه وقبول رخصته، لكن يصحّ صومه ويجزئه، لأنّه عزيمة أبيح تركها رخصةً، فإذا تحمّله أجزأه، لصدوره من أهله في محلّه، كما أتمّ المسافر، وكالمريض الّذي يباح له ترك الجمعة، إذا حضرها‏.‏

قال في المبدع‏:‏ فلو خاف تلفاً بصومه، كره، وجزم جماعة بأنّه يحرم‏.‏ ولم يذكروا خلافاً في الإجزاء‏.‏

ولخصّ ابن جزيّ من المالكيّة أحوال المريض بالنّسبة إلى الصّوم، وقال‏:‏ للمريض أحوال‏:‏ الأولى‏:‏ أن لا يقدر على الصّوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضّعف إن صام، فالفطر عليه واجب‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يقدر على الصّوم بمشقّة، فالفطر له جائز، وقال ابن العربيّ‏:‏ مستحبّ‏.‏ الثّالثة‏:‏ أن يقدر بمشقّة، ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن لا يشقّ عليه، ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر عند الجمهور، خلافاً لابن سيرين‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه إذا أصبح الصّحيح صائماً، ثمّ مرض، جاز له الفطر بلا خلاف، لأنّه أبيح له الفطر للضّرورة، والضّرورة موجودة، فجاز له الفطر‏.‏

ثانياً‏:‏ السّفر

57 - يشترط في السّفر المرخّص في الفطر ما يلي‏:‏

أ - أن يكون السّفر طويلاً ممّا تقصر فيه الصّلاة قال ابن رشد‏:‏ وأمّا المعنى المعقول من إجازة الفطر في السّفر فهو المشقّة، ولمّا كانت لا توجد في كلّ سفر، وجب أن يجوز الفطر في السّفر الّذي فيه المشقّة، ولمّا كان الصّحابة كأنّهم مجمعون على الحدّ في ذلك، وجب أن يقاس ذلك على الحدّ في تقصير الصّلاة‏.‏

ب - أن لا يعزم المسافر الإقامة خلال سفره مدّة أربعة أيّام بلياليها عند المالكيّة والشّافعيّة، وأكثر من أربعة أيّام عند الحنابلة، وهي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً عند الحنفيّة‏.‏

ج - أن لا يكون سفره في معصية، بل في غرض صحيح عند الجمهور، وذلك‏:‏ لأنّ الفطر رخصة وتخفيف، فلا يستحقّها عاص بسفره، بأن كان مبنى سفره على المعصية، كما لو سافر لقطع طريق مثلاً‏.‏

والحنفيّة يجيزون الفطر للمسافر، ولو كان عاصياً بسفره، عملاً بإطلاق النّصوص المرخّصة، ولأنّ نفس السّفر ليس بمعصية، وإنّما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، والرّخصة تتعلّق بالسّفر لا بالمعصية‏.‏

د - أن يجاوز المدينة وما يتّصل بها، والبناءات والأفنية والأخبية‏.‏

وذهب عامّة الصّحابة والفقهاء، إلى أنّ من أدرك هلال رمضان وهو مقيم، ثمّ سافر، جاز له الفطر، لأنّ اللّه تعالى جعل مطلق السّفر سبب الرّخصة، بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏، ولما ثبت من » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافرًا، وأفطر «‏.‏

ولأنّ السّفر إنّما كان سبب الرّخصة لمكان المشقّة‏.‏

وحكى النّوويّ عن أبي مخلد التّابعيّ أنّه لا يسافر، فإن سافر لزمه الصّوم وحرّم الفطر وعن سويد بن غفلة التّابعيّ‏:‏ أنّه يلزمه الصّوم بقيّة الشّهر، ولا يمتنع السّفر، واستدلّ لهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏

حكى الكاسانيّ عن عليّ وابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهم - أنّه إذا أهلّ في المصر، ثمّ سافر، لا يجوز له أن يفطر‏.‏

واستدلّ لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏

ولأنّه لمّا استهلّ في الحضر لزمه صوم الإقامة، وهو صوم الشّهر حتماً، فهو بالسّفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك، كاليوم الّذي سافر فيه، فإنّه لا يجوز له أن يفطر فيه‏.‏ 58 - وفي وقت جواز الفطر للمسافر ثلاث أحوال‏:‏

الأولى‏:‏ أن يبدأ السّفر قبل الفجر، أو يطلع الفجر وهو مسافر، وينوي الفطر، فيجوز له الفطر إجماعاً - كما قال ابن جزيّ - لأنّه متّصف بالسّفر، عند وجود سبب الوجوب‏.‏ الثّانية‏:‏ أن يبدأ السّفر بعد الفجر، بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده، ثمّ يسافر بعد طلوع الفجر، أو خلال النّهار، فإنّه لا يحلّ له الفطر بإنشاء السّفر بعدما أصبح صائماً، ويجب عليه إتمام ذلك اليوم، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة، وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة، ورواية عن أحمد‏.‏ وذلك تغليباً لحكم الحضر‏.‏

ومع ذلك لا كفّارة عليه في إفطاره عند الحنفيّة، وفي المشهور من مذهب المالكيّة، خلافاً لابن كنانة، وذلك للشّبهة في آخر الوقت‏.‏ ولأنّه لمّا سافر بعد الفجر صار من أهل الفطر، فسقطت عنه الكفّارة‏.‏

والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يحرم عليه الفطر حتّى لو أفطر بالجماع لزمته الكفّارة‏.‏ والمذهب عند الحنابلة وهو أصحّ الرّوايتين عن أحمد، وهو ما ذهب إليه المزنيّ وغيره من الشّافعيّة‏:‏ أنّ من نوى الصّوم في الحضر، ثمّ سافر في أثناء اليوم، طوعاً أو كرهاً، فله الفطر بعد خروجه ومفارقته بيوت قريته العامرة، وخروجه من بين بنيانها، واستدلّوا بما يلي‏:‏

ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏‏.‏

وحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكّة عام الفتح فصام حتّى بلغ كراع الغميم، وصام النّاس معه، فقيل له‏:‏ إنّ النّاس قد شقّ عليهم الصّيام، وإنّ النّاس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب - والنّاس ينظرون إليه - فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أنّ ناساً صاموا، فقال‏:‏ أولئك العصاة «‏.‏

وحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ » خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكّة، في شهر رمضان، فصام حتّى مرّ بغدير في الطّريق، وذلك في نحر الظّهيرة‏.‏ قال‏:‏ فعطش النّاس، وجعلوا يمدّون أعناقهم، وتتوق أنفسهم إليه‏.‏ قال‏:‏ فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فأمسكه على يده، حتّى رآه النّاس، ثمّ شرب، فشرب النّاس «‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ السّفر مبيح للفطر، فإباحته في أثناء النّهار كالمرض الطّارئ ولو كان بفعله‏.‏ وقال الّذين أباحوه من الشّافعيّة‏:‏ إنّه تغليب لحكم السّفر‏.‏

وقد نصّ الحنابلة، المؤيّدون لهذا الرّأي على أنّ الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم، خروجاً من خلاف من لم يبح له الفطر، وهو قول أكثر العلماء، تغليباً لحكم الحضر، كالصّلاة‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يفطر قبل مغادرة بلده‏.‏

وقد منع من ذلك الجمهور، وقالوا‏:‏ إنّ رخصة السّفر لا تتحقّق بدونه، كما لا تبقى بدونه، ولمّا يتحقّق السّفر بعد، بل هو مقيم وشاهد، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ ولا يوصف بكونه مسافراً حتّى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين، ولذلك لا يقصر الصّلاة‏.‏

والجمهور الّذين قالوا بعدم جواز الإفطار في هذه الصّورة، اختلفوا فيما إذا أكل، هل عليه كفّارة‏؟‏ فقال مالك‏:‏ لا‏.‏ وقال أشهب‏:‏ هو متأوّل وقال غيرهما‏:‏ يكفّر‏.‏

وقال ابن جزيّ‏:‏ فإن أفطر قبل الخروج، ففي وجوب الكفّارة عليه ثلاثة أقوال‏:‏ يفرّق في الثّالث بين أن يسافر فتسقط، أو لا، فتجب‏.‏

59 - ويتّصل بهذه المسائل في إفطار المسافر‏:‏ ما لو نوى في سفره الصّوم ليلاً، وأصبح صائماً، من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر، لا يحلّ فطره في ذلك اليوم عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو وجه محتمل عند الشّافعيّة، ولو أفطر لا كفّارة عليه للشّبهة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وكذا لا كفّارة عليه بالأولى، لو نوى نهاراً‏.‏

وقال ابن جزيّ‏:‏ من كان في سفر، فأصبح على نيّة الصّوم، لم يجز له الفطر إلاّ بعذر، كالتّغذّي للقاء العدوّ، وأجازه مطرّف من غير عذر، وعلى المشهور‏:‏ إن أفطر، ففي وجوب الكفّارة ثلاثة أقوال‏:‏ يفرّق في الثّالث بين أن يفطر بجماع فتجب، أو بغيره فلا تجب‏.‏

لكن الّذي في شروح خليل، وفي حاشية الدّسوقيّ‏:‏ أنّه إذا بيّت نيّة الصّوم في السّفر وأصبح صائماً فيه ثمّ أفطر، لزمته الكفّارة سواء أفطر متأوّلاً أم لا‏.‏ فسأل سحنون ابن القاسم، عن الفرق بين من بيّت الصّوم في الحضر ثمّ أفطر بعد أن سافر بعد الفجر من غير أن ينويه فلا كفّارة عليه، وبين من نوى الصّوم في السّفر ثمّ أفطر فعليه الكفّارة‏؟‏ فقال‏:‏ لأنّ الحاضر من أهل الصّوم، فسافر فصار من أهل الفطر، فسقطت عنه الكفّارة، والمسافر مخيّر فيهما، فاختار الصّوم وترك الرّخصة، فصار من أهل الصّيام، فعليه ما عليهم من الكفّارة‏.‏

والشّافعيّة في المذهب، والحنابلة قالوا‏:‏ لو أصبح صائماً في السّفر، ثمّ أراد الفطر، جاز من غير عذر، لأنّ العذر قائم - وهو السّفر - أو لدوام العذر - كما يقول المحلّيّ‏.‏

وممّا استدلّوا به حديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ »‏.‏‏.‏‏.‏ فصام حتّى مرّ بغدير في الطّريق «‏.‏

وحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - »‏.‏‏.‏‏.‏ فصام حتّى بلغ كراع الغميم «‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وهذا نصّ صريح، لا يعرج على ما خالفه‏.‏

قال النّوويّ‏:‏ وفيه احتمال لإمام الحرمين، وصاحب المهذّب‏:‏ أنّه لا يجوز، لأنّه دخل في فرض المقيم، فلا يجوز له التّرخّص برخصة المسافر، كما لو دخل في الصّلاة بنيّة الإتمام، ثمّ أراد أن يقصر، وإذا قلنا بالمذهب، ففي كراهة الفطر وجهان، وأصحّهما أنّه لا يلزمه ذلك، للحديث الصّحيح، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك‏.‏

وزاد الحنابلة أنّ له الفطر بما شاء، من جماع وغيره، كأكل وشرب، لأنّ من أبيح له الأكل أبيح له الجماع، كمن لم ينو، ولا كفّارة عليه بالوطء، لحصول الفطر بالنّيّة قبل الجماع، فيقع الجماع بعده‏.‏

صحّة الصّوم في السّفر

60 - ذهب الأئمّة الأربعة، وجماهير الصّحابة والتّابعين إلى أنّ الصّوم في السّفر جائز صحيح منعقد، وإذا صام وقع صيامه وأجزأه‏.‏

وروي عن ابن عبّاس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنّه غير صحيح، ويجب القضاء على المسافر إن صام في سفر‏.‏ وروي القول بكراهته‏.‏

والجمهور من الصّحابة والسّلف، والأئمّة الأربعة، الّذين ذهبوا إلى صحّة الصّوم في السّفر، اختلفوا بعد ذلك في أيّهما أفضل، الصّوم أم الفطر، أو هما متساويان‏؟‏

فمذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة، وهو وجه عند الحنابلة، أنّ الصّوم أفضل، إذا لم يجهده الصّوم ولم يضعفه، وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه مندوب‏.‏

قال الغزاليّ‏:‏ والصّوم أحبّ من الفطر في السّفر، لتبرئة الذّمّة، إلاّ إذا كان يتضرّر به‏.‏ وقيّد القليوبيّ الضّرر بضرر لا يوجب الفطر‏.‏

واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ‏}‏ إلى قوله ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ‏}‏‏.‏ فقد دلّت الآيات على أنّ الصّوم عزيمة والإفطار رخصة، ولا شكّ في أنّ العزيمة أفضل، كما تقرّر في الأصول، قال ابن رشد‏:‏ ما كان رخصةً، فالأفضل ترك الرّخصة‏.‏ وبحديث أبي الدّرداء المتقدّم قال‏:‏ » خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، في حرّ شديد‏.‏‏.‏‏.‏ ما فينا صائم إلاّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعبد اللّه بن رواحة «‏.‏

وقيّد الحدّاديّ، صاحب الجوهرة من الحنفيّة، أفضليّة الصّوم - أيضاً - بما إذا لم تكن عامّة رفقته مفطرين، ولا مشتركين في النّفقة، فإن كانوا كذلك، فالأفضل فطره موافقةً للجماعة‏.‏

ومذهب الحنابلة، أنّ الفطر في السّفر أفضل، بل قال الخرقيّ‏:‏ والمسافر يستحبّ له الفطر قال المرداويّ‏:‏ وهذا هو المذهب‏.‏

وفي الإقناع‏:‏ والمسافر سفر قصر يسنّ له الفطر‏.‏ ويكره صومه، ولو لم يجد مشقّةً‏.‏ وعليه الأصحاب، ونصّ عليه، سواء وجد مشقّةً أو لا، وهذا مذهب ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم وسعيد والشّعبيّ والأوزاعيّ‏.‏

واستدلّ هؤلاء بحديث جابر رضي الله تعالى عنه‏:‏ » ليس من البرّ الصّوم في السّفر « وزاد في رواية‏:‏ » عليكم برخصة اللّه الّذي رخّص لكم فاقبلوها «‏.‏

قال المجد‏:‏ وعندي لا يكره لمن قوي، واختاره الآجرّيّ‏.‏

قال النّوويّ والكمال بن الهمام‏:‏ إنّ الأحاديث الّتي تدلّ على أفضليّة الفطر، محمولة على من يتضرّر بالصّوم، وفي بعضها التّصريح بذلك، ولا بدّ من هذا التّأويل، ليجمح بين الأحاديث، وذلك أولى من إهمال بعضها، أو ادّعاء النّسخ، من غير دليل قاطع‏.‏

والّذين سوّوا بين الصّوم وبين الفطر، استدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ » أنّ حمزة بن عمرو الأسلميّ رضي الله تعالى عنه قال للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أأصوم في السّفر‏؟‏ - وكان كثير الصّيام – فقال‏:‏ إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر «‏.‏

انقطاع رخصة السّفر

61 - تسقط رخصة السّفر بأمرين اتّفاقاً‏:‏

الأوّل‏:‏ إذا عاد المسافر إلى بلده، ودخل وطنه، وهو محلّ إقامته، ولو كان دخوله بشيء نسيه، يجب عليه الصّوم، كما لو قدم ليلاً، أو قدم قبل نصف النّهار عند الحنفيّة‏.‏

أمّا لو قدم نهاراً، ولم ينو الصّوم ليلاً، أو قدم بعد نصف النّهار - عند الحنفيّة، ولم يكن نوى الصّوم قبلاً - فإنّه يمسك بقيّة النّهار، على خلاف وتفصيل في وجوب إمساكه‏.‏ الثّاني‏:‏ إذا نوى المسافر الإقامة مطلقاً، أو مدّة الإقامة الّتي تقدّمت في شروط جواز فطر المسافر في مكان واحد، وكان المكان صالحاً للإقامة، لا كالسّفينة والمفازة ودار الحرب، فإنّه يصير مقيماً بذلك، فيتمّ الصّلاة، ويصوم ولا يفطر في رمضان، لانقطاع حكم السّفر‏.‏ وصرّحوا بأنّه يحرم عليه الفطر - على الصّحيح - لزوال العذر، وفي قول يجوز له الفطر، اعتباراً بأوّل اليوم‏.‏

قال ابن جزيّ‏:‏ إنّ السّفر لا يبيح قصراً ولا فطراً إلاّ بالنّيّة والفعل، بخلاف الإقامة، فإنّها توجب الصّوم والإتمام بالنّيّة دون الفعل‏.‏

وإذا لم ينو الإقامة لكنّه أقام لقضاء حاجة له، بلا نيّة إقامة، ولا يدري متى تنقضي، أو كان يتوقّع انقضاءها في كلّ وقت، فإنّه يجوز له أن يفطر، كما يقصر الصّلاة‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ ولو بقي على ذلك سنين‏.‏

فإن ظنّ أنّها لا تنقضي إلاّ فوق أربعة أيّام عند الجمهور، أو خمسة عشر يوماً عند الحنفيّة، فإنّه يعتبر مقيماً، فلا يفطر ولا يقصر، إلاّ إذا كان الفرض قتالاً - كما قال الغزاليّ- فإنّه يترخّص على أظهر القولين، أو دخل المسلمون أرض الحرب أو حاصروا حصناً فيها، أو كانت المحاصرة للمصر على سطح البحر، فإنّ لسطح البحر حكم دار الحرب‏.‏

ودليل هذا‏:‏ » أنّه - صلى الله عليه وسلم - أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصّلاة « ويلاحظ أنّ الفطر كالقصر الّذي نصّوا عليه في صلاة المسافر، من حيث التّرخّص، فإنّ المسافر له سائر رخص السّفر‏.‏

ثالثاً‏:‏ الحمل والرّضاع

62 - الفقهاء متّفقون على أنّ الحامل والمرضع لهما أن تفطرا في رمضان، بشرط أن تخافا على أنفسهما أو على ولدهما المرض أو زيادته، أو الضّرر أو الهلاك، فالولد من الحامل بمنزلة عضو منها، فالإشفاق عليه من ذلك كالإشفاق منه على بعض أعضائها‏.‏ قال الدّردير‏:‏ ويجب - يعني الفطر - إن خافتا هلاكاً أو شديد أذىً، ويجوز إن خافتا عليه المرض أو زيادته‏.‏

ونصّ الحنابلة على كراهة صومهما، كالمريض‏.‏

ودليل ترخيص الفطر لهما‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ وليس المراد من المرض صورته، أو عين المرض، فإنّ المريض الّذي لا يضرّه الصّوم ليس له أن يفطر، فكان ذكر المرض كنايةً عن أمر يضرّ الصّوم معه، وهو معنى المرض، وقد وجد هاهنا، فيدخلان تحت رخصة الإفطار‏.‏

وصرّح المالكيّة بأنّ الحمل مرض حقيقةً، والرّضاع في حكم المرض، وليس مرضاً حقيقةً‏.‏ وكذلك، من أدلّة ترخيص الفطر لهما، حديث أنس بن مالك الكعبيّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ » إنّ اللّه وضع عن المسافر الصّوم وشطر الصّلاة، وعن الحامل أو المرضع الصّوم أو الصّيام « وفي لفظ بعضهم‏:‏ » عن الحبلى والمرضع «‏.‏

وإطلاق لفظ الحامل يتناول - كما نصّ القليوبيّ - كلّ حمل، ولو من زنىً وسواء أكانت المرضع أمّاً للرّضيع، أم كانت مستأجرةً لإرضاع غير ولدها، في رمضان أو قبله، فإنّ فطرها جائز، على الظّاهر عند الحنفيّة، وعلى المعتمد عند الشّافعيّة، بل لو كانت متبرّعةً ولو مع وجود غيرها، أو من زنىً، جاز لها الفطر مع الفدية‏.‏

وقال بعض الحنفيّة، كابن الكمال والبهنسيّ‏:‏ تقيّد المرضع بما إذا تعيّنت للإرضاع، كالظّئر بالعقد، والأمّ بأن لم يأخذ ثدي غيرها، أو كان الأب معسراً، لأنّه حينئذ واجب عليها، لكن ظاهر الرّواية خلافه، وأنّ الإرضاع واجب على الأمّ ديانةً مطلقاً وإن لم تتعيّن، وقضاءً إذا كان الأب معسراً، أو كان الولد لا يرضع من غيرها‏.‏

وأمّا الظّئر فلأنّه واجب عليها بالعقد، ولو كان العقد في رمضان، خلافاً لمن قيّد الحلّ بالإجارة قبل رمضان‏.‏

كما قال بعض الشّافعيّة كالغزاليّ‏:‏ يقيّد فطر المرضع، بما إذا لم تكن مستأجرةً لإرضاع غير ولدها، أو لم تكن متبرّعةً، لكن المعتمد المصحّح عندهم خلافه، قياساً على السّفر فإنّه يستوي في جواز الإفطار به من سافر لغرض نفسه، وغرض غيره، بأجرة وغيرها‏.‏

رابعاً‏:‏ الشّيخوخة والهرم

63 - وتشمل الشّيخوخة والهرم ما يلي‏:‏

الشّيخ الفاني، وهو الّذي فنيت قوّته، أو أشرف على الفناء، وأصبح كلّ يوم في نقص إلى أن يموت‏.‏

المريض الّذي لا يرجى برؤه، وتحقّق اليأس من صحّته‏.‏

العجوز، وهي المرأة المسنّة‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ المريض الّذي لا يرجى برؤه في حكم الكبير‏.‏

وقيّد الحنفيّة عجز الشّيخوخة والهرم، بأن يكون مستمرّاً، فلو لم يقدرا على الصّوم لشدّة الحرّ مثلاً، كان لهما أن يفطرا، ويقضياه في الشّتاء‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يلزمهما الصّوم، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه، وأنّ لهما أن يفطرا، إذا كان الصّوم يجهدهما ويشقّ عليهما مشقّةً شديدةً‏.‏

قال ابن جزيّ‏:‏ إنّ الشّيخ والعجوز العاجزين عن الصّوم، يجوز لهما الفطر إجماعاً، ولا قضاء عليهما‏.‏

والأصل في شرعيّة إفطار من ذكر‏:‏

أ - قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ فقد قيل في بعض وجوه التّأويل‏:‏ إنّ ‏(‏لا‏)‏ مضمرة في الآية، والمعنى‏:‏ وعلى الّذين لا يطيقونه‏.‏

وقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ الآية ليست بمنسوخة، وهي للشّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كلّ يوم مسكيناً‏.‏

والآية في محلّ الاستدلال، حتّى على القول بنسخها، لأنّها إن وردت في الشّيخ الفاني - كما ذهب إليه بعض السّلف - فظاهر، وإن وردت للتّخيير فكذلك، لأنّ النّسخ إنّما يثبت في حقّ القادر على الصّوم، فبقي الشّيخ الفاني على حاله كما كان‏.‏

ب - والعمومات القاضية برفع الحرج، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏‏.‏

وموجب الإفطار بسبب الشّيخوخة عند الحنفيّة والحنابلة، وهو الأظهر عند الشّافعيّة، وهو قول عند المالكيّة‏:‏ وجوب الفدية، ويأتي تفصيله‏.‏

خامساً‏:‏ إرهاق الجوع والعطش

64 - من أرهقه جوع مفرط، أو عطش شديد، فإنّه يفطر ويقضي‏.‏

وقيّده الحنفيّة بأمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يخاف على نفسه الهلاك، بغلبة الظّنّ، لا بمجرّد الوهم، أو يخاف نقصان العقل، أو ذهاب بعض الحواسّ، كالحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما الهلاك أو على أولادهما‏.‏

قال المالكيّة‏:‏ فإن خاف على نفسه حرّم عليه الصّيام، وذلك لأنّ حفظ النّفس والمنافع واجب‏.‏

الثّاني‏:‏ أن لا يكون ذلك بإتعاب نفسه، إذ لو كان به تلزمه الكفّارة، وقيل‏:‏ لا‏.‏

وألحقه بعض الفقهاء بالمريض، وقالوا‏:‏ إنّ الخوف على النّفس في معنى المرض‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ ومثل المرض غلبة جوع وعطش، لا نحو صداع، ووجع أذن وسنّ خفيفة‏.‏

ومثّلوا له بأرباب المهن الشّاقّة، لكن قالوا‏:‏ عليه أن ينوي الصّيام ليلاً، ثمّ إن احتاج إلى الإفطار، ولحقته مشقّة، أفطر‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ المحترف المحتاج إلى نفقته كالخبّاز والحصّاد، إذا علم أنّه لو اشتغل بحرفته يلحقه ضرر مبيح للفطر، يحرم عليه الفطر قبل أن تلحقه مشقّة‏.‏

وقال أبو بكر الآجرّيّ من الحنابلة‏:‏ من صنعته شاقّة، فإن خاف بالصّوم تلفاً، أفطر وقضى، إن ضرّه ترك الصّنعة، فإن لم يضرّه تركها أثم بالفطر وبتركها، وإن لم ينتف الضّرر بتركها، فلا إثم عليه بالفطر للعذر‏.‏

65 - وألحقوا بإرهاق الجوع والعطش خوف الضّعف عن لقاء العدوّ المتوقّع أو المتيقّن كأن كان محيطاً‏:‏ فالغازي إذا كان يعلم يقيناً أو بغلبة الظّنّ القتال بسبب وجوده بمقابلة العدوّ، ويخاف الضّعف عن القتال بالصّوم، وليس مسافراً، له الفطر قبل الحرب‏.‏

قال في الهنديّة‏:‏ فإن لم يتّفق القتال فلا كفّارة عليه، لأنّ في القتال يحتاج إلى تقديم الإفطار، ليتقوّى ولا كذلك المرض‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ ومن قاتل عدوّاً، أو أحاط العدوّ ببلده، والصّوم يضعفه عن القتال، ساغ له الفطر بدون سفر نصّاً، لدعاء الحاجة إليه‏.‏

ولا خلاف بين الفقهاء، في أنّ المرهق ومن في حكمه، يفطر، ويقضي - كما ذكرنا - وإنّما الخلاف بينهم فيما إذا أفطر المرهق، فهل يمسك بقيّة يومه، أم يجوز له الأكل‏؟‏

سادساً‏:‏ الإكراه

66 - الإكراه‏:‏ حمل الإنسان غيره، على فعل أو ترك ما لا يرضاه بالوعيد‏.‏

ومذهب الحنفيّة والمالكيّة، أنّ من أكره على الفطر فأفطر قضى‏.‏

قالوا‏:‏ إذا أكره الصّائم بالقتل على الفطر، بتناول الطّعام في شهر رمضان، وهو صحيح مقيم، فمرخّص له به، والصّوم أفضل، حتّى لو امتنع من الإفطار حتّى قتل، يثاب عليه، لأنّ الوجوب ثابت حالة الإكراه، وأثر الرّخصة في الإكراه هو سقوط المأثم بالتّرك، لا في سقوط الوجوب، بل بقي الوجوب ثابتاً، والتّرك حراماً، وإذا كان الوجوب ثابتاً، والتّرك حراماً، كان حقّ اللّه تعالى قائماً، فهو بالامتناع بذل نفسه لإقامة حقّ اللّه تعالى، طلباً لمرضاته، فكان مجاهداً في دينه، فيثاب عليه‏.‏

وأمّا إذا كان المكره مريضاً أو مسافراً، فالإكراه - كما يقول الكاسانيّ - حينئذ مبيح مطلق، في حقّ كلّ منهما، بل موجب، والأفضل هو الإفطار، بل يجب عليه ذلك، ولا يسعه أن لا يفطر، حتّى لو امتنع من ذلك، فقتل، يأثم‏.‏ ووجه الفرق‏:‏ أنّ في الصّحيح المقيم كان الوجوب ثابتاً قبل الإكراه من غير رخصة التّرك أصلاً، فإذا جاء الإكراه - وهو سبب من أسباب الرّخصة - كان أثره في إثبات رخصة التّرك، لا في إسقاط الوجوب‏.‏

وأمّا في المريض والمسافر، فالوجوب مع رخصة التّرك، كان ثابتاً قبل الإكراه، فلا بدّ أن يكون للإكراه أثر آخر لم يكن ثابتاً قبله، وليس ذلك إلاّ إسقاط الوجوب رأساً، وإثبات الإباحة المطلقة، فنزل منزلة الإكراه على أكل الميتة، وهناك يباح له الأكل، بل يجب عليه، فكذا هنا‏.‏

وفرّق الشّافعيّة بين الإكراه على الأكل أو الشّرب، وبين الإكراه على الوطء‏:‏ فقالوا في الإكراه على الأكل‏:‏ لو أكره حتّى أكل أو شرب لم يفطر، كما لو أوجر في حلقه مكرهاً، لأنّ الحكم الّذي ينبني على اختياره ساقط لعدم وجود الاختيار‏.‏

أمّا لو أكره على الوطء زنىً، فإنّه لا يباح بالإكراه، فيفطر به، بخلاف وطء زوجته‏.‏ واعتمد العزيزيّ الإطلاق، ووجّهه بأنّ عدم الإفطار، لشبهة الإكراه، على الوطء، والحرمة من جهة الوطء، فعلى هذا يكون الإكراه على الإفطار مطلقاً بالوطء والأكل والشّرب، إذا فعله المكره لا يفطر به، ولا يجب عليه القضاء إلاّ في الإكراه على الإفطار بالزّنى، فإنّ فيه وجهاً بالإفطار والقضاء عندهم‏.‏

وهذا الإطلاق عند الشّافعيّة، هو مذهب الحنابلة أيضاً‏:‏ فلو أكره على الفعل، أو فعل به ما أكره عليه، بأن صبّ في حلقه، مكرهاً أو نائماً، كما لو أوجر المغمى عليه معالجةً، لا يفطر، ولا يجب عليه القضاء، لحديث‏:‏ » وما استكرهوا عليه «‏.‏

ملحقات بالعوارض

67 - يمكن إلحاق ما يلي، من الأعذار، بالعوارض الّتي ذكرها الفقهاء، وأقرّوها وأفردوا لها أحكاماً كلّما عرضت في الصّوم، كالحيض والنّفاس والإغماء والجنون والسّكر والنّوم والرّدّة والغفلة‏.‏

وأحكامهما تنظر في مصطلحاتها‏.‏